حكاية عشق ممو وزين، احمد خان وجزيرة بوطان، اعياد النوروز واللقاء الغريب، قدر بثوب العشق يجتاح الجزيرة، عجوز القصر مرسال الغرام وزواج سين وتاج الدين، حزن زين وآ
مُلاحظةً لا بُدَّ منها....
اعذروا بوحي، فقد أنطقت مَمّو وزين بعضاً من حروفي وكلماتي ومناجاتي في الرواية، فلن تجدوها في رواية العلامة البوطي، ولا النُّسخة الكرديَّة للكاتب الكبير أحمد خان.....
صاغ أحداث هذه الرِّواية الشعريَّة المُرهفة الحس، الشَّاعر الصوفي العالم والحكيم (أحمد خاني)، في القرن السَّابع عشر، فاض فيها من عشقه لجذوره وانتمائه الكُردي، ولعلَّ هذه الرِّواية كانت من أجمل الأوراق التي باح بها الكاتب؛ ليُعبِّر عن أدب هذا الشَّعب العريق، حيث ألهم بروايته حروف النُقَّاد، وأدمع عين العاشق، والنَّاسك، ورجل الدِّين، حتَّى نرى العلامة ذو الأصول الكرديَّة المُفتي السَّابق المرحوم (سعيد رمضان البوطي) قد ترجم الرِّواية للغة العربيَّة، ولعلَّ العِشق نعم حرَّكهُ، ولكن لاعتقادي أنَّ الرِّواية فيها من الصوفيَّة والتعبُّد والطُّهر ما يفوق الصَّلاة على محراب التنسُّك، روايةً تحكي الوجع والحُبَّ، والأمل والحِرمان، والمؤامرات الخسيسة التي تُحاك في الظَّلام.
تقع أحداث روايتنا يا سادة في مدينةٍ وادعةٍ جميلة، كوجوه حسناوات أهلها، خَيّرةٌ كالأرض المِعطاءة التي تحتضنها في العراق الخصب، وعلى نهر دجلة؛ هناك في مدينة (بوطان)، كان يُحيك القدر أعظم قِصَّة حُبٍّ عُذري روحاني عرفته القلوب العطشى للعشق.
قِصَّة ممّو؛ الأمير الشَّهم، والأميرة زين ساحرة الحُسن، جميلة الوجه كأنَّما البدر تجلَّى في مُحيَّاها، كانت زين أميرة المدينة، ولها أختٌ تُدعى (سي)، تُشاركها عرش الفتنة والسِّحر، وكانت الأختان تفيضان أنوثةً وعِفَّةً ودلالٍ وجمال، وفي يوم النوروز المُقدَّس، والمدينة تختال بخُضرتها، وكانت ورودها أساور عُرسٍ مُستلقيةً بِكُلِّ دلالها على ضفاف دجلة، كان الحُب يعُجُّ في المدينة، وعيد النوروز مُناسبةً لقطف حبيبٍ كما تُقطفُ الورد من شجر الجوري واللَّيلك، ومن أجمل من سي، وأرقَّ من زينٍ حُسناً، ليكونا حُلُم كل فارسٍ وعاشقٍ في الجزيرة، وعلى الضفَّة الثانية من خيوط العشق؛ كان هناك الفارسان اللذان يفيضان عنفواناً وجاذبيَّةً ورجولة، الفارس مَمّو، والفارس تاج الدِّين توأم روحه، وهُنا تبدأ روايتنا الشيِّقة يا سادة…..
قرَّرت الأختان زين وسي أن تتنكرا بلباس رجال، وأن تندسَّا بين الشَّباب؛ لتتمكنا من التبحُّر جيِّداً، علَّهما يلتقيا بِحُبي حياتهما في ليلة العيد ويوم النوروز، وبذات الصُّدفة، قرَّر الفارسين مَمّو وتاج الدين أن يتنكرا بلباس فتاتين، ليبحثا عن الأميرتين الجميلتين الذي ذاع صيت جمالهما في كلِّ البلاد، ويلتقي العُشَّاق الأربعة، وتمسَّهُم حُمَّى العشق، فيُغمى على الفارسين من سِحر الأميرتين، وتركض زين وسي لتريان ماذا حّلّ بالفتاتين الغريبتين، وما سِرُّ لهفة القلب نحوهما، خافتا ولم تعرفا ماذا تفعلان، ولكنهُنَّ بدلن خواتمهُنَّ المّرصَّعة بالألماس، ولبستا خاتمي الفتاتين المُلقاتين على الأرض، وكأنَّهما تُحاولان التخفيف عنهما، ولم تعلما بأنَّ الخواتم ستغدو مفاتيحاً للجنَّة، و لهيب جهنَّم الحارق للقلوب بلظى العشق…..
رجعت الأميرتين مدهوشتين تُريدان معرفة سِرَّ الفتاتين، ولم يكن لهُنَّ من مُعينٍ سوى عجوز القصر الحكيمة مٌربيتهن، ومُدبِّرة القصر التي لا تُخفيان عنها شيئا، وما كان من العجوز بعد أن رأت حال الاميرتين، وانقلاب حالتيهما، وكأنَّه مسَّهما جِنٌّ أو سِحر، أخذت الخاتمين، وقرَّرت أن تجوب البلاد على أنَّها طبيبةً روحيَّة تُشفي قلوب العُشَّاق من مسِّ الهوى، والضيق والوهن، وفي المقلب الآخر كان مَمّو وتاج الدين يحترقان بنار الحُب، ويبحثان عن السَّبيل للوصول إلى حقيقة الخواتم المزروعة بكفَّيهما، ومحفورٌ على خاتم مَمّو زين، وعلى خاتم تاج الدِّين اسم سي بعد أن استفاقا، وهل هذا حُلماً أم حقيقة.
سمع توأمي الرُّوح بالعجوز، وذهبا إليها علَّها تُساعدهما، فنجحت العجوز بسعيها، وبعد تفاصيل مشوِّقة بين جذبٍ ورد، كانت العجوز مِرسال بشارة، وطمأنت قلب الأميرتين، وبرَّدت نارهما…..
بعد أن علم تاج الدِّين أنَّ من عشقها هي أخت الأمير زين الدِّين أمير البلاد، وهو ذو الحسبِ والنسب، ومن أشراف الجزيرة، ولا يوجد أيَّ حاجزٍ يُبعده عن حبيبته سي، ذهب مع إخوته الثلاثة طالباً يد سي للزَّواج من الأمير زين الدِّين، وعمَّت الأفراح البلاد بعد أن جمع الحُب تاج الدِّين وسي، وتوَّج صبرهما بالظفر.
لكن بقي مَمّو العاشق الصَّابر ينتظر حظَّه بالوصول لمحبوبة القلب والفؤاد زين، البدر المُكتمل في كُلِّ يوم.
إنَّ حال تاج الدِّين ليس كحال مَمّو عند الأمير زين الدِّين، فلا هو من الأغنياء، ولا من السَّادة كي يحظى بقبول الأمير، ولكنَّ عِشقه لزين كان عظيماً كسر حدود الأعراف والسُّلطان والنَّسب، وبقي مَمّو يعتصر حٌزنه بصمتٍ كُلَّ ليلة، فكيف الوصال لزين الرُّوح، وكانت زين التي عشقت مَمّو صابرةً بحزن، كاتمةً عشقها خوفاً من أخيها، فكان مَمّو في كلِّ يومٍ يمشي نحو ضفاف دجلة، ويصرخ بالنَّهر قائلاً:
"أيُّها المتدفِّق كدمعي، الهائجُ مثل نار شوقي، مالي أراك من ساعة ليلٍ أو نهار إلا هائجاً زاخراً، لا يقرُّ لك قرار، ولا يهدأ منك بال... أَعِنّي على بلواي، وقرّب وجهَ زينٍ مِنِّي كما قرَّبت وجه البدر والهلال من صفحة مائِكَ الرَّقراق، أنت يا نهر دجلة من عشقت أجبني سوى هذه الجزيرة الخضراء؟ لمَ الهياج إذن أخبرني؟ وهي نائمةً بين ذِراعيك منازلها، مُستقرَّةً في قلبك.... يداك ملتفَّةٌ حول الخصر.... وشمال فروعك مبسوطةً فوق عقد النَّحر".
وكان يُناجي الرِّياح قائلاً:
"أيُّها النسيم السَّاري في رِقَّةِ الرُّوح، اذهب مع شوقي وجنوني وادخل إلي زينٍ من كُلِّ شُبَّاكٍ مفتوح، أرجوكِ يا رياح عانقي ضفيرتها، هاتي من عبق الجسد عطر الرُّوح، ولكن في تواضُعٍ ولُطفٍ ثُمَّ تراجعي إلى الوراء ولا تُزعجيها، أرسلي رسالة روحي المُستعرة، ثُمَّ عودي إليَّ واجتاحيني مِثل عاصفةٍ رعناء، هُزِّي شموخ ثباتي، واقتلعي جذور كبريائي، فما عاد لي بعد زينٍ سوى الموت.... انثريني مع غُبار الطَّلع في عيد النوروز، لأتنبَّت في كُلِّ زهرةٍ، وفي كُلِّ عرقٍ أخضر؛ عَلّي أعود إليها وبين يديها كباقةِ زهر".
كان ممّو حزيناً يقرع فؤاده ويُخاطبه دوماً، فيا من تراهُ يقول:
"أيُّها الخائن الجبان؛ ألم تعدني بأن تكون وفيَّاً لي، لا تجعل من جسدي ذليلاً بداء الهوى، ألم تقل أنَّك شديد البأس، مالي أراك وهِنت، إذن أريد الموت، توقَّف عن الخفقان.. أرجوك توقف".....
ظَلَّ مَمّو على ألمهِ وحُزنه، فكيف السَّبيل لزين، وكذلك حالُ الأميرة العاشقة، تندب حظَّها وتُناجي النجوم كُلَّ يوم، وتُرسل حُبَّها لمَمّو مع كُلِّ شهقةٍ وزفير..
وفي يومٍ كانت الجزيرة مشغولةً بيوم الصيد الكبير، خرج الأمير زين الدِّين وكُلُّ من معه إلى الصيد، وبعد أن خلا القصر من سُكَّانه، بقيت زين وحيدةً حزينةً كعادتها على شُبَّاكها، يدها على خدِّها تنظر وهي شاردةً بعُمق، وكأنَّ فلاسفة التَّاريخ اجتمعوا في تجهُّمٍ نظرتها وعمق حزنها، وأخذت تنهيدةً عميقةً أخالها سحبت ما في الجزيرة من هواء.
قرَّرت زين أن تمشي في حديقة القصر، علَّها تُخفِّف عن نفسها الضيق والشوق، ولم تكن تعلم أنَّ مَمّو الهائم بحُبِّها قد أوصلته أقدامه إلى حديقتها دون أن يدري أو يعلم، وكأنَّه ثملٌ يمشي بعد سُكر…..
التقى العاشقين صدفةً، وأغمي على مَمّو حين التقى بحبيبته زين، وأغمي عليها هي أيضاً من فرط العشق والوله، وحدود الوجد الهائج، كموجٍ في ذروة العاصفة.
حين فتح مَمّو عينيه، رأي رأسه على رُكبتي زين حبيبته وهي تنظُر له بعشق، لم ينطق لساعاتٍ ببنت شفة، فقد اسكتته الدَّهشةُ، وهي عقد لسانها الحياء، ثُمَّ أمعن بوجهِها الجميل اللطيف الفتَّان، وقال لها:
- ماذا؟.. ألست أنت زين؟ ألست أنتِ قلبي؟ هل أنا حيٌ، أم في الحياة الأخرى وفي جنان الخلد؟….
فقالت له:
- بل أنا زين بحقيقتها يا حبيبي، أنت معي في قصر أخي.
وظلَّا يتبادلان الغزل ونظرات الهيام، إلى أن حلَّ المغيب، وعاد كُلّ السُكَّان من الصيد ولم يزل مَمّو وزين في حديقة القصر يجهشان بالدَّمع من فيض الوجد والغرام، ودخل الأمير زين الدِّين ومن معه إلى الحديقة، فقام مَمّو بسرعة البرق وأخفى حبيبته زين في عباءته لكي لا يراها أخاها، وظلَّ جالساً متحجِّجاً بمرضه.
كان من ضِمن من كان برفقة الأمير في الحديقة، صديق مَمّو الوفي تاج الدِّين، وعلم أنَّ صديقه في مأزقٍ جلل، فما كان منه بعد أن علم بوجود زين تحت عباءة صديقه، فافتعل حريقاً عظيماً في قصره الفخم ليُنقذ صاحبه، حيث دخل قصره، وطلب من سي أخت زين الفرار منه مع ولده وبعض النَّفائس، وقال لها أنَّه سيحرق القصر، وأنَّ الناس تُطفيء النَّار بالماء، واليوم يطفأ النَّار بالنَّار، ويقصد نار الفتنة إذا عرف زين الدِّين ما يحصل في حديقة قصرة، هكذا فعل الصديق الوفي تاج الدِّين، فداءً لكرامة مَمّو توأم روحه، قام بإحراق قصره العظيم بكلِّ ما فيه من أثاث، ليُشغل كُلَّ السُكَّان في قصر الأمير، حتَّى تتمكَّن زين من الهرب، وينجو مَمّو.
كان في بلاط القصر ذميمٌ قذر، حاجبٌ للأمير زين الدِّين، يُدعى الحاجب (بكر)، وكان أجرد الوجه، قصير القامة، عيناه تبُثَّان الحقد والكراهية لكل من حولها، نحسٌ ماكرٌ وذميم، خبيثٌ حاقدٌ، لا يُحبَّ الخير لأحد، كارهٌ لتاج الدِّين ومَمّو؛ لأنَّه يعلم أنَّ الإثنين كاشفان لألاعيبه وسرقاته في القصر، وما فتئ الخبيث بكر من بثِّ نار الفتة على تاج الدِّين، ولكنَّ الأمير زين الدِّين كان يقرعه وينعته بأبشع الصِّفات، ولكنَّ خبث ودهاء بكر أوقعت الأمير في شباك الفتنة، واستطاع أن يقلب رأس الأمير على تاج الدِّين، وأن يُقنعه أنَّ تاج الدِّين يُريد الحُكم، وأنَّه يُريد تزويج مَمّو من زين رغماً عنه، لذلك قرَّر الأمير أن يمنع الزَّواج بأيَّةِ طريقة، وأنَّه لن يسمح لمَمّو من الوصول لمُبتغاه، ولا لتاج الدين ما يُريد، وحاول أن يفضح مَمّو أمام الأمير، ويُجبره على الاعتراف بطريقةٍ قذرةٍ وخبيثة، ليعترف مَمّو بِحبِّه لزين، فيجنَّ الأمير ويقتله، حيث قال للأمير أن يُلاعب مَمّو بالشطرنج، ومن يربح عليه أن يُنفِّذ بصدقٍ كُلَّ ما يُطلب منه.
كان ممّو مُحترفاً بارعاً لا يُشقُّ له غبار، وقبِل بِكُلِّ فرحٍ أن يلعب ضِدَّ الأمير، فقد شعر أنَّ طاقة فرج قد تُفتح إذا ربح، فيطلب يد زين بعد خسارة الأمير ويقبل، لكنَّ الخبيث بكر بعد أن خسر الأمير مرَّتين، جعل جلسة مَمّو مُعاكسةً لما كانت عليه، حيث أراد بحيلته القذرة أن تكون زين جالسةً قبالته، وفعلاً فقد مَمّو صوابه، وهامت عيونه بزين، ونسي اللعب وخسر خمس مرَّاتٍ مُتتالياتٍ أمام الأمير، وهنا قام زين الدِّين بسؤال مَمّو عن حبيبته، علَّه يُساعده ويخطبها له، فرفض البوح باسمها، وتكتَّم رغم شرط اللعبة، ولكن بقذارة الحاجب (بكر) المعهودة، والذي استفزَّ مَمّو مُتعمداً ليفضحه، ويُجبره على الكلام، وقال إنَّ حبيبته عبدةٌ سوداء نجسة، يخجل أن يذكرها بمجلس الأمير، فثارت كرامته، وقال لبكرٍ أنَّه هو القذر وذو النَّجاسة، وأنَّ حبيبته أشرف النَّاس؛ ذات الحسب والنَّسب والأصل الرفيع، وهي أميرة الجزيرة، وحين سمع الأمير زين الدِّين هذا جُنَّ جنونه، وأمر بقتل مَمّو على الفور لتطاوله، وذكر الأميرة زين أخته أمام العامَّة، وكل من يسمع بأنَّه يُحبُّها.
وكما ذكرنا أنَّ الأمير زين الدَّين أمر بقتل مَمّو، ولكن صديقه الوفيَّ الشُجاع تاج الدين تدخَّل في آخر وقت، وسحب سيفه واغمده بكلِّ من حاول الاقتراب من ممّو حتَّى سالت الدِّماء، والتفت بوجه الأمير زين الدِّين مُخاطباً إيَّاه، قائلاً:
إنَّ من يقترب من مَمّو سوف يلقى حتفه، فأنا لن أسمح لمخلوقٍ بأذيَّة صديقي.
وبسبب موقع تاج الدِّين وحساسية الأمر، قرَّر الأمير العودة عن قرار القتل بالحبس، وهكذا اقتيد مَمّو مُكبَّلاً بالأصفاد والأغلال إلى سجنه عقاباً له على عشقه الطَّاهر لذات العفَّة والطهارة زين.
مرَّت الأيَّام والشهور، ومَمّو حبيس السِّجن، لا مؤنس لوحدته، ولا مُنيراً لظُلمة جُدران زنزانته سوى صورة وجه زين، كم كان وقعُ سجن ممّو ثقيلا على قلب الطِّفلة البريئة الملاك زين، وكم هو صعبٌ أن تعلم أنَّ عشيقها وحبيبها وروحها، في سجنٍ ظالمٍ في قصر أخيها…..
كم مرَّةً كانت تقول:
- يا ليت ظُلم أخي يجور علي، فيأخذني مكبَّلةً لزنزانة حبيبي ومرآة روحي المُعذَّبة العطشى للقائهِ، فيُرديني سجينة جدران حبس حبيبي، ليُحرّر كُلَّ ما في داخلي من قهرٍ وحزنٍ وألمُ فراق.
بعد أن رفض الأمير زين الدِّين رجاء الكثير من الأعيان والفُرسان الذين يفخرون بالفارس مَمّو، والذين يعلمون أنَّه إنسانٌ نبيل لم يُخطئ في ما فعل، وخصوصاً صديقه الأقرب إلى قلبه ووجدانه، الفارس تاج الدِّين، فما كان من تاج الدِّين وإخوته الثلاثة، إلا أن أعلنوا فقدان الصَّبر وانتهاء زمن التوسُّل من زين الدِّين، واستخدام التمرُّد، وأخذ الحقِّ بالقوَّة، فانطلقوا بالحِرابِ و الأسِنَّةِ والرِّماح، مُدجَّجين بالدُّروع، يطلبون قصر الأمير زين الدِّين، ولكنَّهم ولأنَّهم أصحاب حق، وطُلاب عدالة، لا ثاراً ودماء، حاولوا للمرَّة الأخيرة رغم عزمهم على الحرب أن يُرسلوا شيخاً حكيماً ذو عقلٍ راجح، وأسلوب حوارٍ هادئ، ليوصل رسالهً للأمير زين الدِّين بأنَّهم فُرسانه، ولن يتوانوا عن بذل الأرواح فداءً لكرامته، ولخدمته، ولكن مَمّو فارسٌ مقدامٌ وبريء، ولن يقبلوا أن يبقى في السِّجن بعد اليوم.
فكان ردَّ الأمير خبيثاً، مُحاولاً امتصاص الغضب، وقال لهم عن طريق الشيخ بأنَّه سيُطلق سراح مَمّو، وأنَّه سيغفر له بسبب حُبِّهِ لفُرسانه، ولكنَّ القذر بكر كان يُغذِّي الحقد في قلب الأمير، ويقوِّيه على تاج الدِّين، ويحاول إقناعه أن يُسمِّمهُ هو وإخوته بالسُّم، ولكنَّ زين الدِّين لا يقبل بهكذا عملٍ جبان.
وسوس بكرٍ للأمير بأنَّ عليه قتل مَمَو، ليتخلَّص من المؤامرة، حيث أنَّه إذا مات مَمّو فقد التمرُّدَ معناه، فراقت له الفكرة، وقال له دعه يموت حسرةً، قم بإدخال زين عليه فجأةً، فيتوقَّف قلبه ويموت حين يراها.
وقرَّر الأمير أن يُمهِّد للأمر ويُخادع اخته، ولكنَّه حين دخل غرفتها، صُعِقَ لمَّا رأى شبحاً جالساً في تخت أخته ستِّ الحُسنِ والجمال، أين هي زين النِّساء وشمس بوطان، إنَّها شاحبةٌ مُصفرَّةٌ مُتهالكة، لا تقوى على الوقوف، فقد أعياها الحُزنُ والألم، وقلَّة الطعام والشراب والنّوم.
اقترب منها نادماً على ما فعل، ودخلت اخته سي بعد أن سمعت صوته وهو يصرُخ ويدمع لمَّا رأى من هاته زين، حيث بقَّت الدم من فمها، فعبَّأ تختها، وكأنَّها تحتضر، دخل الخدم والأطباء والقصر كُلَّه لغرفتها وهم مذهولون، والأمير قد خارت قواه ونار الندم تأكل جسده لمَ فعله بأخته، فما كان منها إلا أن قالت له:
- لا تحزن يا أخي وأميري الحبيب، فداك ألف أختٍ فلا تحزن، إنَّه يوم عرسي فلا تُفسده بدموعك، إنِّي أتحرَّر اليوم من جسدي، وتتوق الرُّوح لقاء حبيبي مَمّو، وصيَّتي لك أن تدفنِّي بجانبه، وأن تُطعم لمُدَّة سنةً كاملة الفقراء من حولك، وأن تزُفَّني عروساً إليه، وأن تُزيِّن سي أختي نعسي، وتُلبسني أجمل فستان عُرس، فأنا حبيبة أعظم عاشق، واليوم وداعي…..
كان هذا اليوم غامضاً قدراً، ولغزاً غريباً مُحيّرا، فما سِرّ هذا التوحُّد والتناغم الرُّوحي بين مَمّو وزين، حيث كانت زين تحتضر في غُرفتها، ومَمّو يُطلق آخر أنفاسه في سِجنه المُظلم، فصرخ حُرَّاس القصر بأنَّ ممّو سيُفارق الحياة، فجُنَّ الأمير، وأسرع بطلب فكِّ أسره، وحمل أخته زين إليه.. ولكن بعد فوات الأوان، فما عاد ينفع الزَّيت يا زين الدِّين، فالعتمةُ حلَّت في القصر، وانطفأ المصباح.. فما نفع الزَّيت…..
انتهى كُلُّ شيء، فما عاد ينفع ودُّك وصفحك عنهما، فقد أرديت هذا الحُبَّ قتيلاً، فما نفع زيتك حين أطفأت الفتيل، إنَّه سراج العُمر على آخر نفسه.
ولكنَّ زين أبت إلا أن تزحف نحو سجن مَمّو لتُلاقيه اللقاء الأخير، ذهبت إليه وكان في سكرات الموت الأخيرة، وحين لقائه لمست خدَّه وقالت:
- زين: أنت لي نِعم الخليل الوَفي. - مَمّو: أنت نِعم السَّبيل لراحة روحي. - زين: أنت نِعم السِّراج لروحي. - مَمّو: أنتِ نورُ فؤادي. - زين: أنت مُقلة عيني وأناي. - مَمّو: أنت سُلطان روحي. - زين: أنت قِبلةُ نفسي.
مات مَمّو ودُفِن كما العُظماء، فبكته الجزيرة، وناحت عليه العذراوات، وكانت زين فوق قبره تنتحب وتبكي حبيبها إلى أن فارقت الحياة فوق قبره، ودُفِنت معهُ حسب وصيتها، فجمعهما قبراً واحداً بشاهدٍ كُتِب عليه: هُنا يرقد (ممّو زين).
أمَّا تاج الدِّين العظيم الوفاء، ذلك الخِلَّ الوفي، فقد جُنَّ حُزناً، واقتلع أسوار القصر، وحطَّم أبواب القهر، وانتزع من كبد السَّماء العزاء، أمَّا الشيطان الحاقد (بكر)، فقد مات بقبضة تاج الدِّين بعد أن لاح فيه الهواء كما تلوح المسبحة في الهواء، ويُقال بأنَّ تاج الدين برم بجسده عشر مرَّاتٍ، ورطمه على الأرض، فتحطَّمت جُمجمته وانسحقت عِظامه النتنة، ودُفِنت تحت قدمي مَمّو وزين، كخادمٍ وضيع، وليُذكِّر العالم بأنَّ الخالق قد أوجد الأضداد ليُعلِّمهم حِكمة الحياة، وتعرُّف المكنونات من انعكاسها، فما يُعرف الخير إلا بالشر، ولا يُميَّز الضَّوء إلا من العتمة، ولا يُعرف الحب إلا من الكره، فهذا خلق الله، وهذا تدبُره وقدره.
وحتَّى اليوم، وحتَّى هذه السَّاعة ما زال قبر (مَمّو زين) في جزيرة (ابن عمر)، في كُردستان العراق على شاطئ دجلة، تحوَّل لمزارٍ لكُلِّ من أراد أن يُشاهدهما ويزورهما، والعجيب بأنَّ قبر مَمّو وزين يظل مُحاطاً بسورٍ من ظلال الأشجار والورود، أمَّا قبر بكرٍ فلا تكاد تُبارحه الأشواك التي تعلوه بغزارة.
قصة عيد الحب الحقيقية
القديس فالنتين
جميع الحقوق محفوظة © 2020 | موقع أجراس